+
----
-
قال الله تعالى : >ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون< سورة البقرة آية 183 . إن للصوم أثراً عظيماً على النفس كما صرحت الآية القرآنية الكريمة ولن نستطيع أن ندرك هذا الأثر الا إذا أدركنا حقيقة الإنسان ومتطلباته، فهل الإنسان جثة قائمة وهيكل منتصب؟ أم هل هو مجموعة من الأجهزة والخلايا واللحم والدم والعظم والعصب؟ إن الإنسان مادة وروح.. إنه لطيفة ربانية وجوهرة روحانية، يعقل ويفكر ويشعر ويتذوق.. خلقه الله تعالى من طين لازب >إنا خلقناهم من طين لازب< سورة الصافات آية 11، ثم تنفخ فيه الروح: >فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين< سورة الحجر آية (29). ولكل من الجسد والروح غذاء، فغذاء الجسد الطعام والشراب، وغذاء الروح الدين والايمان برب العالمين سبحانه وتعالى.. وأيهما طغى على الآخر كانت المعادلة غير سليمة، فإذا تغلب عنصر المادة على عنصر الروح بأن اقتصر الانسان على متطلبات جسده وأهمل الروح من الدين والايمان هبط صاحب هذه النفس، وإذا تغلب عنصر الروح على عنصر المادة بأن أعطى الروح متطلباتها من الدين والايمان وترقى في ذلك وعلا وسما وتشبه بالملائكة فانه يزداد قربا من الله تعالى ما لم يترتب على ذلك إفساد وهلالك لجسده. فلا بد للإنسان من غذاء لروحه يمنعها الجنوح والوقوع في السوء والشرور، حيث يؤدي هذا الغذاء الى تهذيبها ونقائها، فتسمو، وترتقي، وتنطلق. وفي هذا يقول الله تعالى: >ونفس وما سواها، فألهما فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها< سورة الشمس الآيات (6-10). وقال شاعر: اقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان وإن من هذا الغذاء الذي يبعث في الروح الايمان وتتطلع به الى ملكوت السماء: الصيام، هذه الفريضة التي تحرر الانسان من سلطان غرائزه، وتجعله ينطلق من سجن جسده، ويتغلب على نزعات شهوته ويتحكم بتصرفاته وأفعاله. إن الصيام ينمي في النفس مراقبة الله تعالى، ومن راقب الله تعالى فقد زكى نفسه بحملها على الطاعات واجتناب المعاصي، وبذلك تتهذب نفسه بالصيام، قال صلى الله عليه وسلم: >الصوم جنة< أي وقاية رواه الشيخان، والمسلم أثناء صيامه حريص كل الحرص على الاستفادة من وقته فتجده تالياً للقرآن الكريم مقيماً للصلاة مؤدياً للزكاة معطياً للصدقات جواداً كريماً خيراً سمحاً حليماً صابراً قانتاً ذاكراً لله تعالى معتكفاً شاكراً لأنعمه سبحانه وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: >من صام رمضان وعرف حدوده وتحفظ مما ينبغى له أن يتحفظ كفر ما قبله< رواه أحمد. كما أن المسلم الصائم بعيد عن الكذب والغش والخداع والرياء والسب والشتم والغيبة والنميمة وقول الزور والسخرية والاستهزاء ومجالس اللهو والجهل، وهذه الاشياء وإن كانت محرمة في كل وقت، لكنها على الصائم اشد تحريماً قال عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري، وقال الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه: (إذا كان يوم صوم احدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل، فإن امرؤ سابه فليقل انى امروء صائم) رواه البخاري ومسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالصوم فإنه محسمة للعروق مذهب للاشر) رواه ابن المبارك في الزهد. فالصيام يهيء النفس ويعد الروح لتتلقى الفيض الإلهي وتتلذذ بذوق حلاوة الايمان. إن الصائم بسمو أخلاقه ورفعتها ونقائها كالمسك الذي تفوح منه الرائحة الحسنة التي يسر كل من يشم رائحتها، قال عليه الصلاة والسلام: >وآمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك كلهم يعجبه ريحها، وإن ريح الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك< رواه الترمذي. وبهذا يكون الصوم مدرسة ايمانية تربوية لتهذيب النفس وتزكيتها، وما نقرأه عن سلفنا الصالح من خلق حسن ونفس مهذبة فمرده الى التمسك بتلك العبادات وأدائها على وجهها الأكمل، ومن هنا نلاحظ الدقة في معنى قوله تعالى: >لعلكم تتقون< سورة البقرة آية (183). لقد أرشدنا الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم الى كثرة الدعاء والاستغفار والذكر في شهر رمضان المبارك والى الإنفاق والجود والبذل، لما لذلك من أثر في تهذيب النفس وصقلها، فقال عليه الصلاة والسلام: >استكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين ترضون بهما ربكم وخصلتين لاغناء لكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فتذكرون الله وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لاغناء لكم عنهما فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار< رواه ابن خزيمة والبيهقي وابن حبان. هذه هي حقيقة الصيام وهذا هو أثر الصيام على النفوس وبهذا يكون الصيام المقبول الذي جزاؤه الجنة بإذن الله تعالى.